الإنسان المسلم الذي استوعب حقيقة الإيمان، وأدرك بوعي ومعرفة علاقته بالله يعيش دوماً حياة الرضاء، والاطمئنان إلى خيرية ما يجري في هذا الوجود: (رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ )(التوبة / 100)، لأنّه يبني موقفه الفكري والنفسي هذا على حقيقة إيمانية، ونظرة شفافة عميقة تستنبط حقيقة هذا العالم، وتغوص في أعماق هذا الوجود، فترصد كلّ حركة وحدث يقع فيه بعين الوعي والتقدير الدقيق، لذا فهو لم يكن إنساناً مغلقاً على هذا الوجود، ولا عقلاً متبلّداً يقبع في قوقعة هذا العالم المادّي المغلق، لا يتعامل إلاّ مع ظاهر من الحياة، ولا يعيش إلاّ اللحظة الفاعلة في عمر الكون والوجود والحوادث، فيتعامل معها بانفعال وهلع، واحساس متوتر ساخط.
وإنّما هو روح تنطوي في أعماق ذاتها حقيقة الوجود الكبرى، وتتجسد على صفحة وعيها كيفية مسيرة هذا العالم، بامتداده الزمني الطويل، وغايتها الخيّرة الكبرى، فيرصد نفسه من خلال هذه المسيرة الكونية، باعتباره جزءاً من عالم الوجود الذي يحمل في ضميره كل حقائق المستقبل، ويطوي بين سطوره التي لم تقرأ بعد كل أبعاد القدر، التي دبرت بمشيئة خارجية على مشيئة هذا العالم الذي يحمل على صفحة لوحته آثار التقدير، ويحقق بمسيرته كوامن القضاء والتدبير، فيسير وفق قدر (تخطيط) مسبق يعبّر عن إرادة المقدّر، ويعكس على صفحته آثار صفات الرّبّ العظيم.
من هذه الرؤية، وعلى أساس هذا الوعي يقرّر المؤمن موقفه النفسي تجاه ما يجري في عالمه الإنساني، وما يحدث في حياته كفرد بتقدير من خالقه العظيم، فيظل يتعامل مع هذا القدر، على أساس من معرفته بخالقه وبأفعاله وقضائه وقدره.
ولمّا كانت علاقة هذا الإنسان بالله، قائمة على عقيدة وأحاسيس، تجلّي له صفات الذات الإلهيّة، وما يصدر عنها من أفعال، كان من الطبيعي أن يكون في موقع الرضاء والتقبّل والسرور لما يجري عليه، ويحدث له سواء أكان هذا الذي يحدث يترك في نفسه الراحة والدعة، أو يجلب له المتاعب والألم، فهو مؤمن بأن الذي يجري عليه هو خير له، ولكنّه يجهل هذا الخير، لأن الذي قدر وأجرى الحوادث عليه من سعة في العيش، أو ضيق في الحياة، ومن صحة أو مرض، ومن تقتير، أو عطاء، أو حرمان.. الخ، إنّ كلّ ذلك يسير وفق مبدأ الخير الذي يجلّي صفات خالقه وأفعاله.
وقد لخص الإمام الصادق ـ جعفر بن محمّد (ع) ـ حقيقة ذلك بقوله: «أعلمُ الناس بالله أرضاهم بقضاء الله»().
فالذي يعرف الله، ويؤمن بأنّه الخير المطلق، وأنّه العليم، الحكيم، العادل، الرحيم، الودود، يظل يرى إشراقة هذه الصفات تملأ جوانب الأفعال والحوادث الصادرة عن الله سبحانه، فيستقبلها بالرضاء والسرور، وتتطابق معها كلّ مشاعره وإرادته، لأنّه موقن أنّه الخير الذي لا شرّ فيه، والعدل الذي لا ظلم معه، والود الذي لا أثر للكراهية فيه.
وقد جاء الحديث القدسي مبيناً العلاقة هذه بين الإنسان المؤمن وخالقه: «عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلاّ جعلته خيراً، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، اكتبه يا محمّد من الصدّيقين عندي»().
فالإنسان المؤمن يبني موقفه النفسي والعقائدي من أفعال الله وقضائه وقدره الذي يجري على أساس الحقائق التالية:
1 ـ معرفته بالله.
2 ـ إنّ كلّ شيء يجري وفق قدر محكم، ونظام متقن، ويسير باتجاه نتائج وأحداث محدّدة الوقوع بذاتها وزمانها، والإنسان إن لم يتطابق مع المشيئة والقدر فإنّ ردوده النفسيّة المعاكسة ما هي إلاّ مجرّد حركة ناشزة على حكمة التقدير النافذة، وليس بإمكانها أن تحتل موقعاً في عالم التحقق الخارجي، أو تترك أثراً فاعلاً في مجرى الأحداث والوقائع.
3 ـ إنّ الإنسان يتحمل نتائج هذه الردود النفسية المؤلمة من الناحيتين الذاتية والموضوعية المؤثرة في حياته وآخرته بسبب سخطه وعدم رضاه بقضاء الله وحكمه.
ولنشرح هذه المرتكزات الفكرية الأساسية بشيء من الايضاح والتفصيل:
1 ـ المعرفة بالله سبحانه: تساهم المعرفة بصفات الله، وبأفعاله، وبعلاقة الأمر المتحقق في عالم الإنسان بالذات الإلهيّة، تساهم هذه المعرفة مساهمة فعّالة في تنمية روح الرضاء والقبول بأفعال الله سبحانه; ذلك لأنّ: «أعلمُ النّاس بالله أرضاهم بقضاء الله».
فالمؤمن المستوعب لحقيقة الوجود، والمدرك لصفات خالقه وأفعاله التي هي وسائط المعرفة بين الإنسان وخالقه، وطرائق الكشف عن عظمة الذات الإلهيّة، وعن العلاقة الإنسانيّة بها، فالإنسان المستوعب لتلك الحقيقة يرى انبساط هذه الصفات الإلهيّة، ويتحسس آثارها الفعليّة في وجوده وعالمه، فهو يؤمن:
أنّ الله عادل لا يظلم فإيمانه بالله يجعله يطمئن إلى عدالة القضاء الإلهي، ويؤمن بأن ما يلاقيه في عالمه من مسرات ودعة ونعيم، أو متاعب وآلام ومنغّصات، إن هي إلاّ صفة فعلية لاظهار عدل الله، الذي أقام كلّ شيء في هذا الوجود على أساس من مبدأ الحق والعدل ومما يزيد سرور المؤمن ورضاه هو الاعتقاد بالجزاء الاُخروي، والعوض العادل; الذي ينتظره في عالم الآخرة عن كلّ ما أصابه في عالم الدنيا من آلام ومصائب.
2 ـ أمّا القاعدة الثانية التي بنى عليها المؤمن رضاه بأفعال الله التي تقع عليه هي:
الإيمان بوجود غاية وهدف خيّر لكلّ فعل وحدث يقع على الإنسان; إذ لا شيء من أفعال الله يأتي عبثاً لا غاية له، أو لا ضرورة لوجوده، لأنّ الله تعالى حكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها، فكلّ شيء في هذا الوجود قد وضع في موقعه، ليؤدي دوره، ويعطي غاية وجوده.
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لما يَشاء إِنَّهُ هُوَ الحَلِيمُ الحَكِيمُ ) (يوسف / 100) .
ويحتاج التسليم لأمر الله والرضاء بكلّ أفعاله التي تقع على الإنسان; يحتاج إلى الإيمان بصفة الرحمة الإلهيّة، وفهم العلاقة الإنسانية مع الله; فهماً ينبع من الإيمان باتّصاف الله سبحانه بالود والرحمة، وخلو أفعاله من القسوة والكراهية.
فإنّ الخالق الذي يجري حكمه وقدره على الإنسانك هو رحيم، ودود رؤوف:
فإذا اكتملت صورة هذا الفهم لأفعال الله وصفاته، اطمأنت نفس الإنسان، ورضيت بكلّ فعل يصدر عن الله، ويجري على الإنسان، بعد أن تكشف له معرفته الواضحة بالله سبحانه، مقبولية كلّ ما يدخل في بناء الفعل الإلهي أو تتقوّم ذات الحوادث والأقدار به.
فالمؤمن العارف بالله قد وثق بعد رؤية إيمانية واضحة، أن كلّ ما يرتبط بوقوع الأفعال والحوادث، أو يدخل في بنائها وتكوينها يطرح أمامه تفسيراً مطمئناً ومقبولاً لديه للأسباب الآتية:
أ ) لأنّه أدرك مبرر وجود الفعل، والغاية من حدوثه; بعد أن أدرك حكمة الله، وعرف: أنّ كلّ ما يجري في هذا الوجود هو حكمة، وغاية بالغة الخير والجمال; فلا عبث، ولا فوضى; في هذا الوجود.
ب ) لأنّه أدرك نسبة وجود الفعل إلى الإنسان (تقويم الفعل). فإيمانه بعدل الله، ومعرفته الواضحة بهذا العدل، جعلته يتعامل مع كلّ فعل بروح الرضاء والطمأنينة; بعيداً عن الشعور بالظلم والجور الذي يدعوه إلى السخط.
جـ ) لأنّه أدرك علاقته بالله، وحدّد شعوره النفسي تجاه الأفعال الإلهيّة ـ المُسِرَّة والمؤلمة ـ فسحب عليها صفة الرحمة والود، وراح يستقبلها بهذا الشعور النفسي المليء بالحبّ والود والأمل.
وهكذا نظر الإنسان المؤمن إلى أفعال الله وهي تطفح بآثار صفاته وفيوضات نعمائه.
وكم كان رائعاً تعبير الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) عن هذه الحقيقة التي صاغها دعاءً وابتهالاً: «اللّهمّ إنِّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء، وبأسمائك التي ملأت أركان كلّ شيء»().
ففي هذا الدعاء أوضح الإمام علي (ع): أنّ آثار صفات الله، ظاهرة في كلّ فعل صدر عنه سبحانه; من العدل، والرّحمة، والحلم، والحكمة، واللّطف.. الخ، لأنّ الفاعل يترك أصر صفاته على فعله، المعبّر عن مكنون ذاته.
وبذلك الوضوح تكشف المعارف الإلهيّة، المتوفرة لدى الإنسان، آفاقاً من السرور والرضاء، والثقة بخيرية ما يقع على الإنسان; من مسرّات وآلام تصدر عن الله سبحانه وتعالى.
فصار يؤمن أن للآلام حكمة وجودها، وعدالة حدوثها، كما آمن بانبساط هذه الصفات الإلهيّة على ما يسرّه، ويبعث في نفسه القبول والارتياح; فأصبح بعد ذلك ينظر بعين الرضاء والقبول، لكلّ ما يصدر عن الله سبحانه.
د ) إيمان المسلم بأن كلّ شيء يجري وفق قدر محكم، ونظام متقن، وهو يسير باتجاه نتائج وأحداث محدّدة الوقوع بذاتها وزمانها، قال تعالى:
(أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنفُسهمْ ما خلقَ اللهُ السَّمواتِ وَالأَرضَ وما بينهما إلاّ بالحقِّ وأجل مُسمىً وإنّ كثيراً مِنَ النّاسِ بلقاء رَبِّهمْ لَكافرون ) (الرّوم / .
وقد رُوي عن رسول الله (ص): «لم يكن رسول الله يقول لشيء قد مضى: لو كان غيره»().
فالمؤمن الصادق الإيمان، يدرك بإيمانه ومعرفته أنّه: إن لم يتطابق مع مسيرة القدر، ولم يرض بأفعال الله، فإن رفضه، وردوده النفسيّة المعاكسة للمشيئة الإلهيّة; ما هي إلاّ مجرّد حركة ناشزة عن حكمة التقدير، ورغبة شاذة عن مسيرة القدر النافذة، وليس بإمكان رغبته الساخطة هذه أن تحتل أيّ موقع في عالم التحقيق والوجود الخارجي، أو أن تترك أي أثر فاعل في مجرى الأحداث والوقائع، بل تبقى شعوراً ساخطاً، وإحساساً معاكساً; يعبث في أعماق الذات، ويزيد في توترها وإحساسها بالخيبة والألم.
والمؤمن يرصد مسيرة الكون والحياة من خلال نظرة توحي له: بأن كلّ شيء يسير على خط مرسوم وله نظام كلّي، ونتائج محدّدة، فأبعاد الماضي، والحاضر، والمستقبل; تشكل المسرح الزمني الذي تظهر على خشبته مطويات التقدير، ومقررات المشيئة الإلهيّة العادلة.
وغير هذا القدر المطوي في ضمير الوجود لا يمكن أن يكون، أو يحدث، لأنّه وحده الحقيقة الكامنة في قلب هذا العالم، والمقدرة من لدن خبير عليم، وفق نظام هذا الوجود، وخطة سيره.
وإنّ محاولة السخط، والتمرّد على القدر الإلهي، ما هي إلاّ محاولة نفسية لرفض الحقيقة الموضوعة; التي انطوى عليها نظام الوجود.
وإنّ معنى السخط والرغبة في تحصيل المغاير; إن هو إلاّ طلب المستحيل، لأنّه محاولة نفسية يائسة لإعادة نظام التكوين، وإفراغ الوجود من محتواه الإمكاني، الذي قدر بمشيئة، وعدل، وحكمة إلهيّة، بالغة الخير والاتقان.
وهذه حقيقة ينطق بها تاريخ الوجود، فإنّ كلّ ما حدث; من أحداث، ووقائع وأشياء وفق المشيئة الإلهيّة، هو حتمي الحدوث، وهو عبارة عن ظهور ترتيبي ـ حسب خطّة زمنية ـ لمحتوى الوجود الباطن المقدّر.
وإن كلّ ما حدث من أفعال القضاء والقدر، ليس بالإمكان أن لا يحدث، وإنّ صيغة الحاضر القائمة; كانت نتيجة حتمية، كامنة في أعماق الماضي المنصرم.
وكم كان دقيقاً تعبير الحديث الشريف عن هذه الحقيقة حين صرّح: «.. من رضي بالقضاء أتى عليه القضاء، وعظّم الله أجره، ومن سخط القضاء، مضى عليه القضاء، وأحبط الله أجره»().
ويفسّر هذا المفهوم الإيماني الدقيق ما رُوي من أنّ الله سبحانه أوحى إلى النبي داود (ع): «تريد وأريد، وإنّما يكون ما أريد، فإن أسلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلاّ ما أريد»().
فعلى هذا الفهم الإيماني يقوم مفهوم التسليم النفسي بالرضاء والغبطة والسرور بأفعال الله; لأنّها الحقيقة التي لابدّ من وقوعها; ولأنّها الصيغة الفعليّة الناشئة عن فيوضات العدل والرحمة والحكمة.
لذلك اعتبر الرضاء بأفعال الله، درجة قصوى من درجات الإيمان واليقين الواعي السليم فقد رُوي أنّ رسول الله (ص) سأل طائفة من أصحابه: «ما أنتم؟» فقالوا: «مؤمنون». فقال: «ما علامة إيمانكم؟»، فقالوا: «نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء»، فقال: «مؤمنون وربّ الكعبة»().
وروي أنّ النبيّ موسى (ع) قال: «يا ربّ دِلَّنِي على أمر فيه رضاك».
فقال تعالى: «إنّ رضائي في رضاك بقضائي»().
وقال الإمام عليّ بن الحسين (ع): «الصبر والرضى رأس طاعة الله، ومن صبر، ورضي عن الله فيما قضى عليه، فيما أحبّ أو كره، لم يقض الله عزّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلاّ ما هو خير له»().
3 ـ إنّ الإنسان المؤمن يدرك بوعيه وإيمانه: أنّه يتحمل نتائج السخط المؤلمة من الناحية النفسية والموضوعية المؤثرة في حياته، بسبب هذا الرّد النفسي، وعدم الرضاء بقضاء الله وقدره.
وهو يدرك أيضاً أنّ خيره وسعادته النفسيّة في الحياة باقراره ورضاه وبقضاء الله وقدره، وأنّ شقاءه ومعاناته في سخطه ورفضه، مستوحياً هذا المفاهيم من تجربته كإنسان يعيش ويجرّب من جهة، ومن وعيه المتفتح بسبب إرشاد الإسلام، وتوعيته له من جهة أخرى.
من الأمثلة التوجيهية المؤثرة في وعي المؤمن وعقيدته ما ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع): «إنّ الله بعدله، وحكمته، وعلمه; جعل الروح والفرح، في اليقين والرضى عن الله تعالى، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط»().
فإحساس المؤمن بالرضى يجعله يتطابق مع قدره، ويتقبل صيغة حياته التي لابدّ له من الظهور بصورها المقدرة له.
فيتحوّل الإنسان بهذا الوعي والموقف النفسي، من إنسان مهوّم فوق عالم الواقع، ومن إنسان مهزوم ضائع في دنيا الخيال، يريد ـ دون جدوى ـ أن يخضع منطق الوجود، وصيرورة الأحداث لخياله، وأحاسيسه الهائمة التائهة، يتحوّل الإنسان من هذه الحال، إلى إنسان يدرك موقفه ويحدّد صيغة حياته التي تملأ نفسه إحساساً بالرضاء والسرور، فيتقبلها شاكراً لخالقه، متقبلاً لأفعاله.
وهكذا نصل في نهاية البحث إلى: أنّ السخط له حدوده المقبولة وأسلوبه التعبيري السليم. فالإنسان من واجبه أن يسخط على الواقع الشاذ المنحرف، وعليه أن يتخذ أسلوب المقاومة والتغيير، لا أسلوب الانهزام والسلبية والتعبير النفسي الملتوي. وأن السخط لا يمكن أن يمتد إلى قضاء الله وقدره وإن أحسّ الإنسان بالألم، ولاقى ما لا يرغب فيه. فإنّ في كلّ فعل إلهيّ غاية وحكمة. وعلى الإنسان أن يتقبّلها رغم خفائها، وصعوبة وضوحها له.
وإنّما هو روح تنطوي في أعماق ذاتها حقيقة الوجود الكبرى، وتتجسد على صفحة وعيها كيفية مسيرة هذا العالم، بامتداده الزمني الطويل، وغايتها الخيّرة الكبرى، فيرصد نفسه من خلال هذه المسيرة الكونية، باعتباره جزءاً من عالم الوجود الذي يحمل في ضميره كل حقائق المستقبل، ويطوي بين سطوره التي لم تقرأ بعد كل أبعاد القدر، التي دبرت بمشيئة خارجية على مشيئة هذا العالم الذي يحمل على صفحة لوحته آثار التقدير، ويحقق بمسيرته كوامن القضاء والتدبير، فيسير وفق قدر (تخطيط) مسبق يعبّر عن إرادة المقدّر، ويعكس على صفحته آثار صفات الرّبّ العظيم.
من هذه الرؤية، وعلى أساس هذا الوعي يقرّر المؤمن موقفه النفسي تجاه ما يجري في عالمه الإنساني، وما يحدث في حياته كفرد بتقدير من خالقه العظيم، فيظل يتعامل مع هذا القدر، على أساس من معرفته بخالقه وبأفعاله وقضائه وقدره.
ولمّا كانت علاقة هذا الإنسان بالله، قائمة على عقيدة وأحاسيس، تجلّي له صفات الذات الإلهيّة، وما يصدر عنها من أفعال، كان من الطبيعي أن يكون في موقع الرضاء والتقبّل والسرور لما يجري عليه، ويحدث له سواء أكان هذا الذي يحدث يترك في نفسه الراحة والدعة، أو يجلب له المتاعب والألم، فهو مؤمن بأن الذي يجري عليه هو خير له، ولكنّه يجهل هذا الخير، لأن الذي قدر وأجرى الحوادث عليه من سعة في العيش، أو ضيق في الحياة، ومن صحة أو مرض، ومن تقتير، أو عطاء، أو حرمان.. الخ، إنّ كلّ ذلك يسير وفق مبدأ الخير الذي يجلّي صفات خالقه وأفعاله.
وقد لخص الإمام الصادق ـ جعفر بن محمّد (ع) ـ حقيقة ذلك بقوله: «أعلمُ الناس بالله أرضاهم بقضاء الله»().
فالذي يعرف الله، ويؤمن بأنّه الخير المطلق، وأنّه العليم، الحكيم، العادل، الرحيم، الودود، يظل يرى إشراقة هذه الصفات تملأ جوانب الأفعال والحوادث الصادرة عن الله سبحانه، فيستقبلها بالرضاء والسرور، وتتطابق معها كلّ مشاعره وإرادته، لأنّه موقن أنّه الخير الذي لا شرّ فيه، والعدل الذي لا ظلم معه، والود الذي لا أثر للكراهية فيه.
وقد جاء الحديث القدسي مبيناً العلاقة هذه بين الإنسان المؤمن وخالقه: «عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلاّ جعلته خيراً، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، اكتبه يا محمّد من الصدّيقين عندي»().
فالإنسان المؤمن يبني موقفه النفسي والعقائدي من أفعال الله وقضائه وقدره الذي يجري على أساس الحقائق التالية:
1 ـ معرفته بالله.
2 ـ إنّ كلّ شيء يجري وفق قدر محكم، ونظام متقن، ويسير باتجاه نتائج وأحداث محدّدة الوقوع بذاتها وزمانها، والإنسان إن لم يتطابق مع المشيئة والقدر فإنّ ردوده النفسيّة المعاكسة ما هي إلاّ مجرّد حركة ناشزة على حكمة التقدير النافذة، وليس بإمكانها أن تحتل موقعاً في عالم التحقق الخارجي، أو تترك أثراً فاعلاً في مجرى الأحداث والوقائع.
3 ـ إنّ الإنسان يتحمل نتائج هذه الردود النفسية المؤلمة من الناحيتين الذاتية والموضوعية المؤثرة في حياته وآخرته بسبب سخطه وعدم رضاه بقضاء الله وحكمه.
ولنشرح هذه المرتكزات الفكرية الأساسية بشيء من الايضاح والتفصيل:
1 ـ المعرفة بالله سبحانه: تساهم المعرفة بصفات الله، وبأفعاله، وبعلاقة الأمر المتحقق في عالم الإنسان بالذات الإلهيّة، تساهم هذه المعرفة مساهمة فعّالة في تنمية روح الرضاء والقبول بأفعال الله سبحانه; ذلك لأنّ: «أعلمُ النّاس بالله أرضاهم بقضاء الله».
فالمؤمن المستوعب لحقيقة الوجود، والمدرك لصفات خالقه وأفعاله التي هي وسائط المعرفة بين الإنسان وخالقه، وطرائق الكشف عن عظمة الذات الإلهيّة، وعن العلاقة الإنسانيّة بها، فالإنسان المستوعب لتلك الحقيقة يرى انبساط هذه الصفات الإلهيّة، ويتحسس آثارها الفعليّة في وجوده وعالمه، فهو يؤمن:
أنّ الله عادل لا يظلم فإيمانه بالله يجعله يطمئن إلى عدالة القضاء الإلهي، ويؤمن بأن ما يلاقيه في عالمه من مسرات ودعة ونعيم، أو متاعب وآلام ومنغّصات، إن هي إلاّ صفة فعلية لاظهار عدل الله، الذي أقام كلّ شيء في هذا الوجود على أساس من مبدأ الحق والعدل ومما يزيد سرور المؤمن ورضاه هو الاعتقاد بالجزاء الاُخروي، والعوض العادل; الذي ينتظره في عالم الآخرة عن كلّ ما أصابه في عالم الدنيا من آلام ومصائب.
2 ـ أمّا القاعدة الثانية التي بنى عليها المؤمن رضاه بأفعال الله التي تقع عليه هي:
الإيمان بوجود غاية وهدف خيّر لكلّ فعل وحدث يقع على الإنسان; إذ لا شيء من أفعال الله يأتي عبثاً لا غاية له، أو لا ضرورة لوجوده، لأنّ الله تعالى حكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها، فكلّ شيء في هذا الوجود قد وضع في موقعه، ليؤدي دوره، ويعطي غاية وجوده.
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لما يَشاء إِنَّهُ هُوَ الحَلِيمُ الحَكِيمُ ) (يوسف / 100) .
ويحتاج التسليم لأمر الله والرضاء بكلّ أفعاله التي تقع على الإنسان; يحتاج إلى الإيمان بصفة الرحمة الإلهيّة، وفهم العلاقة الإنسانية مع الله; فهماً ينبع من الإيمان باتّصاف الله سبحانه بالود والرحمة، وخلو أفعاله من القسوة والكراهية.
فإنّ الخالق الذي يجري حكمه وقدره على الإنسانك هو رحيم، ودود رؤوف:
فإذا اكتملت صورة هذا الفهم لأفعال الله وصفاته، اطمأنت نفس الإنسان، ورضيت بكلّ فعل يصدر عن الله، ويجري على الإنسان، بعد أن تكشف له معرفته الواضحة بالله سبحانه، مقبولية كلّ ما يدخل في بناء الفعل الإلهي أو تتقوّم ذات الحوادث والأقدار به.
فالمؤمن العارف بالله قد وثق بعد رؤية إيمانية واضحة، أن كلّ ما يرتبط بوقوع الأفعال والحوادث، أو يدخل في بنائها وتكوينها يطرح أمامه تفسيراً مطمئناً ومقبولاً لديه للأسباب الآتية:
أ ) لأنّه أدرك مبرر وجود الفعل، والغاية من حدوثه; بعد أن أدرك حكمة الله، وعرف: أنّ كلّ ما يجري في هذا الوجود هو حكمة، وغاية بالغة الخير والجمال; فلا عبث، ولا فوضى; في هذا الوجود.
ب ) لأنّه أدرك نسبة وجود الفعل إلى الإنسان (تقويم الفعل). فإيمانه بعدل الله، ومعرفته الواضحة بهذا العدل، جعلته يتعامل مع كلّ فعل بروح الرضاء والطمأنينة; بعيداً عن الشعور بالظلم والجور الذي يدعوه إلى السخط.
جـ ) لأنّه أدرك علاقته بالله، وحدّد شعوره النفسي تجاه الأفعال الإلهيّة ـ المُسِرَّة والمؤلمة ـ فسحب عليها صفة الرحمة والود، وراح يستقبلها بهذا الشعور النفسي المليء بالحبّ والود والأمل.
وهكذا نظر الإنسان المؤمن إلى أفعال الله وهي تطفح بآثار صفاته وفيوضات نعمائه.
وكم كان رائعاً تعبير الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) عن هذه الحقيقة التي صاغها دعاءً وابتهالاً: «اللّهمّ إنِّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء، وبأسمائك التي ملأت أركان كلّ شيء»().
ففي هذا الدعاء أوضح الإمام علي (ع): أنّ آثار صفات الله، ظاهرة في كلّ فعل صدر عنه سبحانه; من العدل، والرّحمة، والحلم، والحكمة، واللّطف.. الخ، لأنّ الفاعل يترك أصر صفاته على فعله، المعبّر عن مكنون ذاته.
وبذلك الوضوح تكشف المعارف الإلهيّة، المتوفرة لدى الإنسان، آفاقاً من السرور والرضاء، والثقة بخيرية ما يقع على الإنسان; من مسرّات وآلام تصدر عن الله سبحانه وتعالى.
فصار يؤمن أن للآلام حكمة وجودها، وعدالة حدوثها، كما آمن بانبساط هذه الصفات الإلهيّة على ما يسرّه، ويبعث في نفسه القبول والارتياح; فأصبح بعد ذلك ينظر بعين الرضاء والقبول، لكلّ ما يصدر عن الله سبحانه.
د ) إيمان المسلم بأن كلّ شيء يجري وفق قدر محكم، ونظام متقن، وهو يسير باتجاه نتائج وأحداث محدّدة الوقوع بذاتها وزمانها، قال تعالى:
(أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنفُسهمْ ما خلقَ اللهُ السَّمواتِ وَالأَرضَ وما بينهما إلاّ بالحقِّ وأجل مُسمىً وإنّ كثيراً مِنَ النّاسِ بلقاء رَبِّهمْ لَكافرون ) (الرّوم / .
وقد رُوي عن رسول الله (ص): «لم يكن رسول الله يقول لشيء قد مضى: لو كان غيره»().
فالمؤمن الصادق الإيمان، يدرك بإيمانه ومعرفته أنّه: إن لم يتطابق مع مسيرة القدر، ولم يرض بأفعال الله، فإن رفضه، وردوده النفسيّة المعاكسة للمشيئة الإلهيّة; ما هي إلاّ مجرّد حركة ناشزة عن حكمة التقدير، ورغبة شاذة عن مسيرة القدر النافذة، وليس بإمكان رغبته الساخطة هذه أن تحتل أيّ موقع في عالم التحقيق والوجود الخارجي، أو أن تترك أي أثر فاعل في مجرى الأحداث والوقائع، بل تبقى شعوراً ساخطاً، وإحساساً معاكساً; يعبث في أعماق الذات، ويزيد في توترها وإحساسها بالخيبة والألم.
والمؤمن يرصد مسيرة الكون والحياة من خلال نظرة توحي له: بأن كلّ شيء يسير على خط مرسوم وله نظام كلّي، ونتائج محدّدة، فأبعاد الماضي، والحاضر، والمستقبل; تشكل المسرح الزمني الذي تظهر على خشبته مطويات التقدير، ومقررات المشيئة الإلهيّة العادلة.
وغير هذا القدر المطوي في ضمير الوجود لا يمكن أن يكون، أو يحدث، لأنّه وحده الحقيقة الكامنة في قلب هذا العالم، والمقدرة من لدن خبير عليم، وفق نظام هذا الوجود، وخطة سيره.
وإنّ محاولة السخط، والتمرّد على القدر الإلهي، ما هي إلاّ محاولة نفسية لرفض الحقيقة الموضوعة; التي انطوى عليها نظام الوجود.
وإنّ معنى السخط والرغبة في تحصيل المغاير; إن هو إلاّ طلب المستحيل، لأنّه محاولة نفسية يائسة لإعادة نظام التكوين، وإفراغ الوجود من محتواه الإمكاني، الذي قدر بمشيئة، وعدل، وحكمة إلهيّة، بالغة الخير والاتقان.
وهذه حقيقة ينطق بها تاريخ الوجود، فإنّ كلّ ما حدث; من أحداث، ووقائع وأشياء وفق المشيئة الإلهيّة، هو حتمي الحدوث، وهو عبارة عن ظهور ترتيبي ـ حسب خطّة زمنية ـ لمحتوى الوجود الباطن المقدّر.
وإن كلّ ما حدث من أفعال القضاء والقدر، ليس بالإمكان أن لا يحدث، وإنّ صيغة الحاضر القائمة; كانت نتيجة حتمية، كامنة في أعماق الماضي المنصرم.
وكم كان دقيقاً تعبير الحديث الشريف عن هذه الحقيقة حين صرّح: «.. من رضي بالقضاء أتى عليه القضاء، وعظّم الله أجره، ومن سخط القضاء، مضى عليه القضاء، وأحبط الله أجره»().
ويفسّر هذا المفهوم الإيماني الدقيق ما رُوي من أنّ الله سبحانه أوحى إلى النبي داود (ع): «تريد وأريد، وإنّما يكون ما أريد، فإن أسلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلاّ ما أريد»().
فعلى هذا الفهم الإيماني يقوم مفهوم التسليم النفسي بالرضاء والغبطة والسرور بأفعال الله; لأنّها الحقيقة التي لابدّ من وقوعها; ولأنّها الصيغة الفعليّة الناشئة عن فيوضات العدل والرحمة والحكمة.
لذلك اعتبر الرضاء بأفعال الله، درجة قصوى من درجات الإيمان واليقين الواعي السليم فقد رُوي أنّ رسول الله (ص) سأل طائفة من أصحابه: «ما أنتم؟» فقالوا: «مؤمنون». فقال: «ما علامة إيمانكم؟»، فقالوا: «نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء»، فقال: «مؤمنون وربّ الكعبة»().
وروي أنّ النبيّ موسى (ع) قال: «يا ربّ دِلَّنِي على أمر فيه رضاك».
فقال تعالى: «إنّ رضائي في رضاك بقضائي»().
وقال الإمام عليّ بن الحسين (ع): «الصبر والرضى رأس طاعة الله، ومن صبر، ورضي عن الله فيما قضى عليه، فيما أحبّ أو كره، لم يقض الله عزّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلاّ ما هو خير له»().
3 ـ إنّ الإنسان المؤمن يدرك بوعيه وإيمانه: أنّه يتحمل نتائج السخط المؤلمة من الناحية النفسية والموضوعية المؤثرة في حياته، بسبب هذا الرّد النفسي، وعدم الرضاء بقضاء الله وقدره.
وهو يدرك أيضاً أنّ خيره وسعادته النفسيّة في الحياة باقراره ورضاه وبقضاء الله وقدره، وأنّ شقاءه ومعاناته في سخطه ورفضه، مستوحياً هذا المفاهيم من تجربته كإنسان يعيش ويجرّب من جهة، ومن وعيه المتفتح بسبب إرشاد الإسلام، وتوعيته له من جهة أخرى.
من الأمثلة التوجيهية المؤثرة في وعي المؤمن وعقيدته ما ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع): «إنّ الله بعدله، وحكمته، وعلمه; جعل الروح والفرح، في اليقين والرضى عن الله تعالى، وجعل الهمّ والحزن في الشك والسخط»().
فإحساس المؤمن بالرضى يجعله يتطابق مع قدره، ويتقبل صيغة حياته التي لابدّ له من الظهور بصورها المقدرة له.
فيتحوّل الإنسان بهذا الوعي والموقف النفسي، من إنسان مهوّم فوق عالم الواقع، ومن إنسان مهزوم ضائع في دنيا الخيال، يريد ـ دون جدوى ـ أن يخضع منطق الوجود، وصيرورة الأحداث لخياله، وأحاسيسه الهائمة التائهة، يتحوّل الإنسان من هذه الحال، إلى إنسان يدرك موقفه ويحدّد صيغة حياته التي تملأ نفسه إحساساً بالرضاء والسرور، فيتقبلها شاكراً لخالقه، متقبلاً لأفعاله.
وهكذا نصل في نهاية البحث إلى: أنّ السخط له حدوده المقبولة وأسلوبه التعبيري السليم. فالإنسان من واجبه أن يسخط على الواقع الشاذ المنحرف، وعليه أن يتخذ أسلوب المقاومة والتغيير، لا أسلوب الانهزام والسلبية والتعبير النفسي الملتوي. وأن السخط لا يمكن أن يمتد إلى قضاء الله وقدره وإن أحسّ الإنسان بالألم، ولاقى ما لا يرغب فيه. فإنّ في كلّ فعل إلهيّ غاية وحكمة. وعلى الإنسان أن يتقبّلها رغم خفائها، وصعوبة وضوحها له.